كتب:- الدكتور محمد خالد القعيد
رحلت الكاتبة الصحفية الكبيرة الأستاذة نفيسة الصريطى بقلمها النابع بالوعى والفكر ، رحلت أخر تلاميذ الدكتور طه حسين ، والتي نقلت الكثير من أفكاره إلى سجل البقاء ، فكثير من العلماء رحلوا عن الدنيا دون أن يسجل تلاميذهم تراثهم الحوارى والفكرى ، ومناقشاتهم الثرية والتي كانت حقها التدوين ، وقدرها رحمها الله أنها اشتغلت بالأدب نقدا وفكرا ، وقليل من يحيا بين هذه الظلال الوارفة دون ان يعبأ بجمع المال أو السعي لمنصب .
وكان يسعدها أن ربت جيلاً واعيا راشدا ممن عملوا معها وتحت يدها .. جيلا قدر الفكر والأدب والكلمة الصادقة ورأى فيهم بنيان الذوق العام والثقافة المؤسسة لسلسال الحضارة الثقافية المصرية أصلاً وتجديدا ، ربما خالفت فكريا من درسوا لها لكنها كانت تؤمن بأنهم من فتحوا لها الأفاق .. وحين أدخل معها في نقاش ناقدا أستاذها ، كانت تسمع ثم تقول : إن الإنسان مرحلية ، ولا يمكن أن نقيم فكرا لأديب بالقطعة ، بل بجملة النتاج العام له ، فوجدت من هذا أن كثيرا ممن هاجم طه حسين كان يهاجمه من منطلق كتابه عن الشعر الجاهلى فحسب ، وأنا واحد منهم بيد أن أفضل ما كانت تقيمه به هو جملة نتاجه المسطور مع حواره المسموع ، وقليل من الكتاب من أكمل هذا الجانب للرجل الكبير لتتم صورته على النحو الأكمل ..
ولم أكن استخلص حوارا معها إلا وقد خرجت بمعرفة جديدة ، قد تدفع ثمنها إن بحثت عنها ، لكنها كانت تأتينى بها خالصة في نهاية الحوار ، وقلمها السيال كان من مداد القلب والعقل معاً ، فهى تكتب وتقول ما تؤمن به ، دون تزلف أو محباه ، لذلك كانت تكره مثلا شعر المناسبات الذى يبنى على الضعة المفتعلة ، فاسمعها تأتى بأشعار من هنا ومن هناك ، وتحلل النص كأبر ناقد للشعر دون العيب في قائله .
وقد تذكر حوارا دار بينها وبين الدكتور عبدالعزيز الأهوانى حول تبحره في الأدب الأندلسي وعلاقته بميوله القومية واليسارية ، فأدهشه السؤال ، فقال لها : وكأنك يا نفيسة العلم تفتحين لى أفقا جديدا في مجال الفكر ..ثم بدأ يستعرض لها عشرات الأبيات من تاريخ الأندلسي وفردوسه المفقود يشع بالفكر القومى .. لكنه وجد فيه كلاماً دون الفعل ، فقال لها : لكن هذا لم ينقذ الأندلس ، فسألته : وهل يغير الشعر من مصير الأمم ؟ فقال لها بعد أن سكت قليلا وهو يفكر : من الجائز .. لكن لا يعبنى إن قلت لك أنى سأبحث فى هذا الموضوع ، كان هذا اللقاء في أخريات سبعينات القرن الفائت ، ولما انصرفت قالت في نفسها : أيبحث في هذا الأمر بعد أن تجاوز السبعين ربما بثلاث أو أربع سنوات ؟! و انصرفت ، وبعد فترة جمعها لقاء ثلاثى
عامر بينها وبين الأديب الراحل عبدالرحمن الشرقاوى مع الأهوانى في أحدى إحتفاليات نقابة الصحفيين .. فإذا بالأهوانى ينادى عليها فرحاً ومرحبا قائلا لها .. خذى يا نفيسة هذه الأوراق التي كتبتها عن موضوعك .. وجعلتها بعنوان : القومية في شعر الأندلس ، إقرأيها و أعطنى رأيك .. ثم مات بعدها بأقل من بضعة شهور في 1980 دون أن تلقاه ، بعد أن دونت على الأوراق بعض الأراء . وكلما تذكرته ترحمت عليه برغم اختلاف التوجهات الفكرية بينهما ، لكنها أكبرت فيه العزيمة وبذل الجهد الثامر من الأهوانى وكأن الحياة ممتدة معه للأبد . وللحديث بقية .
[الدكتور/ طه حسين]
دكتور عبد العزيز الاهواني
إرسال تعليق